لِحُسْنِ الحَظِّ أوْ لِسُوءِهِ، تَتَمَيّزُ العَرَبِيّةُ بِوجُودِ إخْتِلافِ كَبِيرٍ بَيْنَ المَحْكِيّ/العامِّيّ/الدّارِج والمَكْتُوبِ/الرَّسْمِيّ/الفَصِيحِ. لِكُلِّ ناطِقٍ ذَخِيرةٌ مِنْ الكَلِم الفصيح وأخرى مِنْ الكَلِم العامي، تتشابكان أو تتراكبان أحياناً فِي المعاني وأحْيانا كثيرة تتقاطعان. ولأنّ الدّارِجَة هيَ أولُ ما يَتلقّنه/يَقتبسهُ المَرْءُ فِي المهد فهي لغتهُ الأم، ينبسُ بها ما إن يملكُ القدرةَ عَلى تَحريكِ لسانه وتَستَمرُُّ مَعهُ حَتَّى يَلْفظَ ما يَلْفظُ فِي العَلَزِ الأخير، وأما الفُصْحَى فِيتعلّمها فِيما بَعد حينَ يَذهبُ إلى المدرسة، ويستخدمها قليلاً أو كثيراً، أو لا يَستخدمُها حَسب مَوقعه الإجتماعي ـ الإقتصادي. هذا هو إزدواجٌ لُغَويٌّ، لغتان: لغةٌ يُجُبِلُ عليها المَرْء وتَجْري على الفِطرة ولغةٌ يتَجَشّمَها ويَتَكلّفها. يُصَلّي المَرْءُ بالفُصْحَى ويُغَنّي بالدّارِجَة. هذا فصامٌ قاسٍ. على أي/أية حال، لأنّ الكَلِمات الدّارِجَة أكثر إستعمالاً وتداولاً فهِيَ أقربُ إلى واقعِ الحياة اليومية ونَبْضها وهيَ أكثر حَملاً وشحناً بالمعاني التي تتعلقُ بحياة الإنسان وهُمُومه اليومية. إذا كان الأمر هكذا، فكيفَ يمكنُ للفُصْحَى أنْ تقتربَ مِنْ حياة الناطقين بها؟ كَيفَ يمكنُ تقليص الفَجوةِ المتنامية التي تتسعُ يوماً بعد يومٍ بَيْنَ اللغة الرسمية/المكتوبة واللغة العامية/ الدّارِجَة/ المحكية؟
نظرياً، يمكنُ للعامية أن تمدّ وتُغني الفُصْحَى، ولكن العَرَبِيّة ترتابُ مما حَوْلها وتقفُ مِنْ وراءِ حِجاب ولَها قانونٌ صارمٌ فِي هذا الشأن إذ نادراً ما تهاجرُ المفردة مِنْ العامية المَحكيّة إلى العَرَبِيّة الرسمية. وهكذا يمكنُ لكَلِمة أن يتداولها الناسُ صباحَ مساءَ لقرون عديدة دونَ أن تجدَ لها تَقبّلاً فِي العَرَبِيّة المكتوبة. ولكن ماذا عَن الكَلِماتِ الفُصاحَ التي هي فِي أسْرِ الدّارِجَة؟ هنالك عددٌ كبيرٌ مِنْ الكَلِم الفَصِيح، فَصِيحٌ فَصاحَةُ لِسان الأصْمَعي يتداولُه الناسُ كُلّ يومٍ فِي حياتهم، ونَسيتهُ أو تجاهَلَتْهُ اللغةُ الفُصْحَى فلا يَستْخدمُه أحدٌ ظناً أنّهُ مِنْ الكَلِم الدارِج. هل فِي إعادةِ هذه الكَلِمات إثراءٌ للفُصْحَى؟ هذا ما أحاولُ تسليط َ بَعض الضوءِ عَليهِ أدْناهُ.
لو تَمَعّنا بكَلِمات اللغةِ الدّارِجَة لوَجَدنا أنها إحدى ثلاث: كَلِمة لها لفظ ومعنى الفُصْحَى، وكَلِمة لها لفظ وغير مَعنى الفُصْحَى بسبب التطور الدلالي أو لسَبب مَجْهول، و كَلِمة يَصعبُ تَتَبّع أصْلها إلى الفُصْحَى كأن تكون مِنْ لغاتٍ مَحَلّية قديمة أو مِنْ لغات أجنبية. هذا تقسيمٌ مُبَسّط وهنالك تداخلٌ وتطابقٌ وتشابكُ بَيْنَ هذه الأقسام لَنْ أشرَحَه لضِيق المجالِ هنا. ولتِبْيان ما أنا بِصَدَدِهِ هنا سأعالجُ فقط الكَلِمات التي لَهَا لَفْظُ ومَعنى الفُصْحَى، وهي ضَرْبان: ضَرْبٌ تَتفقُ فِيه الفُصْحَى مع الدّارِجَة ويُستخدمُ فِي يومنا هذا فِي كِلَيْهما للإشارة إلى نفسِ المعنى، مثل نامَ وكَتَبَ وطَبَخَ ومَشى وتصريفاتها. والضّرْبُ الآخر كَلِمات فُِصاح تُسْتخدمُ فِي يومنا هذا فِي اللُّغةِ الدّارِجَة فقط، ولا تُسْتَخْدمُ فِي الفُصْحَى المُعاصرة. هنالكَ مئات بلْ آلاف مِنْ الكَلِمات الفُِصاح التي إستمرَّ إستخدامها فِي اللغة المَحْكِيّة منذُ قرون العَرَبِيّة الأولى، ولكن لسَبَبٍ أو لآخر إنقطعَ إستعْمالها فِي اللغةِ المَكْتوبة، ولهذا ظُنّ أنها دارِجَةٌ عامّية. يُلْفَظ بعضُ هذه الكَلِمات كما جاء فِي الكتب ولكن بعضها يَرتَدي رداءَ الدّارِجَة كأن تُلفظُ القافُ كالجيم المصرية أو كالكاف الفارِسية أو تأتي حَركاتُ الحروف على غَيرِ ما جاءَ فِي الأصلِ الفصيحِ ولكن الكَلِمة هِيَ هِيَ والمعنى هُوَ هُوَ. ولأنّ هذه الكَلِمات هي مِنْ اللغة الدّارِجَة اليومية العملية، تَحملُ كُلّ كَلِمة مِنْها، بالإضافة إلى المَعنى القاموسي، إيحاءات/دلالات/إشارات/ كثيرة يَعِيها المُتكّلمُ والمُتلقّي على الفِطرة. إن إطلاق سراح هذه الكلمات من أسر العامِّيّة سيُثْري العربية الرسمية وسيُقَللِ من حدة الفصام الناشز بين المحكي والمكتوب. فِيما يلي بِضعةٌ من هذه الكلمات(1)، جئتُ بها كأمثلة مِنْ بَيْنَ مئات من الكلمات، وهي مما دَرَجْتُ عَلَيهِ فِي البستان فِي السماوة فِي البلاد التي جئنا منها.
يقال فِي الدّارِجَة: لَهْوَجَتُ اللّحْمَ عَلى جَمْرِِ الرِّمْثِ(2)، أي طَبَخْتهِ أو شَوَيْتُهُ عَلى عُجالة وَلَمْ أنْضجْه. ويقالُ أيضاً: لا تَتَلَهْوَجْ، أي إصْطَبِرْ، لا تتعجلْ وتَمَعّنْ. ويقال هو مُلَهْوج إذا كانَ لا يَستقرُ على شَيءٍ. وجاءَ فِي لسان العرب، لَهْوَجَ الشيءَ: خَلَطه. ولَهْوَجَ الأَمْرَ: لم يُحْكِمْه ولم يبْرِمْه. وتَلَهْوَجَ الشيءَ: تَعَجَّلَه، وطعامٌ مُلَهْوَجٌ وهو الذي لمْ يُنْضَجْ؛ وشواء مُلَهْوَجٌ إِذا لمْ يُنْضَجْ. ولَهْوَجَ اللحمَ: لم يُنْعِمْ شَيَّه. ولَهْوَجْتُ اللحْمَ وتَلَهْوَجْتُه إِذا لمْ تُنْعِمْ طَبْخَه وأَنشد الكلابي:
خَيْرُ الشِّواءِ الطَّيِّبُ المُلَهْوَجْ،
قد هَمَّ بالنُّضْجِ، ولمَّا يَنْضَجْ
وهكذا يمكننا أن نتخيّل كيفَ ستُضْفِي هذه الكَلِمة مِنْ مَعانٍ لطيفة لو أنّها أُعِيدَتْ إلى مَكانها فِي العَرَبِيّة الفُصْحَى. يُمكنُ القولُ مثلاً: لقد لَهْوَجَتْ الحكومةُ كتابةَ الدستور، أو أن أقول لأحدهم إذا ألحّ عَليّ فِي رسائله فِي الفراغ مِنْ ترجمة كتابٍ بَعثه لي: أعْطني مَزيداً مِن الوقتِ وإلاّ فإنّي سَألَهْوجُه.
ويقالُ فِي العامية مَلَخَ اللحمَ مِنْ جؤجؤ الزّرْزُور أي إجتذبه بفَمِهِ أو يده، ومَلخَ الرجلُ أي هَربَ، وخاصة بمعنى هَرَبَ مِنْ تَحمّلِ الواجب والمسؤوليةِ والعمل أو مِنْ موقفِ الخوف. ويقالُ جَلسُوا فِي المقهى يَتَمالخون بمعنى يكذبُ بَعضهم عَلى بَعضٍ ويبالغون أو يخوضون فِي الأباطيل. وإذا تَبجّحَ أحدُهُم وإختلقَ الأكاذيب وإدّعى ما ليسَ لَه كأن يقولُ إنّ نصفَ هذا السوق لي أو لديّ سبعة منازل، أو كانَ يتحدثُ عنْ أخبارِ الثورات العَرَبِيّة ويزعمُ بأنهُ كانَ يعرفُ كُلّ شيء، لأن كُلّ ما حصلَ ويحصلُ كانَ قد تمَ التخطيطَ له عندما وُقِّعَتْ إتفاقية سايكس بيكو، يقال له إمْلَخْ!! ( تُلْفَظُ عادة بمطّ أو مَدّ اللّام المفتوحة)، كأنّ المعنى هو: إستمرْ فِي مَلْخك ومبالغاتك فأنا أعْرفُها، وفِي أحيانٍ كثيرة لا تقالُ لهُ هذه الكلمة مباشرةً بلْ تعريضاً وتلميحاً وهَمْساً كأنما تقالُ لإسماع الآخرين وتحذيرهم مِنْه وأنّ ما يسمعونه لَيْسَ إلا مَلخاً وأضاليل. ويقالُ تمالخوا أي تقاتلوا وتصارعوا، كأنّ أحدهم يملخُ لحمَ الآخر. وهذه هي عَيْنُ المعاني التي سَطَرَها إبن منظور فِي قاموسه قبل سبع قرون فالمَلْخ: قَبْضكَ على عضَلَةٍ عَضّاً وجذباً؛ وإمتلخَ الكلبُ عَضَلَته وإمتلخَ يَدَه مِنْ يدِ القابض عَليه. ومَلخَ الشيءَ يملَخُه مَلْخاً وامتَلَخه: اجتذبه فِي استلال. وعن الأَزهري: المَلْخ الفرار، ومَلَخَ فلان إِذا هَربَ. وقد مالخَه وهو يملَخُ بالباطل مَلْخاً أَي يتلهّى ويَلجُّ فِيه؛ وقيل: فلان يَملَخُ فِي الباطل مَلْخاً يتردَّد فِيه ويكثرُ.
ويقال فِي الدّارِجَة مُصْتُ الثوبَ، أي غَسلته، كأنّه الغَسل على عُجالة، أو الغسل بالماء الخالص دون مسحوق التنظيف. ويقالُ دعْني أموصُ أبريقَ الشاي أيْ أغسلُه. ومُواصَة أقداحِ الشاي، الماء الذي أُسْتُخْدُمَ لمَوْصها أو غسلها. وذكرَ إبن منظور أن المَوْص هو الغَسلُ. وماصَه يمُوصُه مَوْصاً: غسَلَه. ومُصْتُ الشيء: غَسَلْته. والمُواصةُ: الغُسالة، وقيل: المُواصَة غُسالة الثياب. ومُواصَة الإِناء وهو ما غُسِل به أَو مِنْه. ويقالُ: ما يَسقيه إِلا مُواصةَ الإِناء. وهذا القول الأخير هو مثل ما يقوله أحَدُنا إذا قُدِّمَ له شاياً خفِيفاً لا يَستَطِيبهُ فَيَحْتَجُّ هكذا: ليسَ هذا إلا مُواصَة أقداح الشاي! وللمَوْص مَعنى آخر فِي الدارِجَة وهو إمْتداد مجازي أو توليد معنوي مِنْ الغسل والغسالة. يقالُ لقد ماصَهُ موصاً، إذا خَدعَ الرجلُ الرجلَ وأخبرهُ بما ظاهره حقٌّ وهو خلاف ذلك، كأن يَدعوه أن ينتمي إلى حِزْب أو إدْيولُوجيا مُعََيّنَة فيؤمن بها وينتمي، أو أن يَبِيعهُ شيئاً رخيصاً بثمن باهض. كأن معنى المَوْص هنا هو مَوْصُ البصيرة أو غسلُ وإزالة القدرة على التفكير والتمييز بَيْنَ الأشياء. وهذا الموْص المعنوي نَجِدُه في حديث عائشة فِي عثمان: مُصْتُموه كما يُماصُ الثوب ثم عَدَوْتم عليه فَقَتَلْتُمُوهُ؛ أي خرجَ نقيّاً مما كانَ فِيه، أو استِعْتابَهم إِيّاه وإِعْتابَه إِياهم فِيما عَتَبُوا عليه، أَرادتْ أَنهم اسْتَتابُوه عما نَقِمُوا مِنْه فلما أَعطاهم ما طلبوا قتلوه. هذه بضعة أمثلة وهنالك مئات الكَلِمات والصيغ الأخرى مثل باخَ و تلمّظَ وتمَطّقَ وخَنْزَرَ وشَخَل وشَخَب وطَبْطَبَ ولَطَعَ وشخّ ولَمَخَ و كَلِمات كثيرة أخرى مثلها.
الآن ونَحنُ نُلَهْوِجُ مَصائِرَنا على عَتَبةْ حَرِجَةٍ، حَرِيٌّ بِنا أنْ نَتساءَلَ كَيْفَ تتأقْلَمُ العَرَبِيّة، لُغَة نامَتْ عَنْها المَجامِعُ وسَبُتَ سَدَنَتُها فِي شِتاءٍ طَويلٍ، بَيْنَ الألْسُنِ فِي عالَمٍ تُفَجّرُ فِيه المعرفة تفجيراً، تلك المعرفة التي يتمّ إنتاجها/ تشفِيرها/ تدوينها بلغات أخرى؟ كيفَ تواجُه العَرَبِيّة الآن هذه الأعداد الهائلة مِنْ الإكتشافات و المنتجات المادية والمَعنويّة التي تُضافُ إلى التّداولِ كُلّ يوم ولَها أسماء أجنبية؟ لا تكادُ تَلْتَفِتُ فِي عَمَلِكَ/ بَيْتَكَ/ السوق حَتَّى تَرى شَيئاً لا تَعْرفُ إسمَه أو فِعْلاً أو نَشاطاً يَقعُ ويَعْجَزُ لِسانُك عَنْ وَصْفه. أتُنَقْحِرُ أمْ تُتَرْجِمُ أم تُعَرِّبُ؟ فِي اللهجة/اللغة الدّارِجَة خَزائِن ثرٌّة مِنْ الكَلِم الفَصِيح. كَلِم حَيُّ فِي الدّارِجَة، مُماتٌ فِي الفُصْحَى، يُمْكِنُ إنْتِشاله وإعادته إلى حِضْن الفُصْحَى. إنّ إعادةَ إستعمال هذهِ الكَلِمات فِيه فوائد جَمّة لا تُحصى، مِنْها إنها تُثري العَرَبِيّة وتُغني معانيها، وتُسهّلها وتقَلّصُ الفجوة القائمة بَيْنَها وبَيْنَ اللغة الدّارِجَة وتجعلُ ألفاظ العَرَبِيّة تَتَدفقُ مِنْ الأفواه على الفطرة. كما أنها تساعدُ على التقاربِ الثقافِي/التفاهم المتبادل بَيْنَ الناطقين بلهجات العَرَبِيّة المختلفة. أخيراً، هذه ليْستْ محاولة لإقحامِ الكَلِمات الدّارِجَة فِي الفُصْحَى أو لإحْياء إستعمالِ قديم أو كَلِمات نادرة أو مهجورة يَصعبُ لفظها أو تنافرتْ حُروفها أو تَحْتاجُ إلى تأويل بعيد أو كلمات إسْتَغْنَتْ عنها الفُصْحى لأنّ لها فيها نظائر. بلْ إنها كَلِمات تجري على الألسنِ مُنذُ القرون الأولى وتَعْكسُ هواجسَ العربي و تعبّرُ عَن أغراضه بأدقّ صورة. هل ستتلكّأ العَرَبِيّة فِي تَقبّلِ مثل هذه المفردات والمعاني مِنْ لهجات ناطقيها؟
الهوامش
1. الأمثلة التي أضربها هنا هي مجرد أمثلة لإيضاح ما أحاولُ إيضاحه. إذا تبيّنَ أن بعض هذه الأمثلة ليستْ مِنْ الكَلِمِ الحيّ فِي الدّارِجَة المُمات فِي الفُصْحَى المعاصرة في بعض البلدان، فهذا لن يغيّرَ مِنْ الأطروحة لأن هنالك مئات مِنْ الأمثلة الأخرى. أنظر كتابنا.
2. حين أضرب مثلاً جملةً لتبيان إستعمال الكَلِمة فِي الدّارِجَة، فأنا أصيغها بالعَرَبِيّة الفحصى فقط لتوضيح الغرض، وليس كما تُستخدم طبيعياً يومياً بالدارجة.